فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}
قوله تعالى: {نوحي}: العامَّةُ على: {يوحى} بالياء من تحت مبنيًا للمفعول. وقرأ حفص: {نوحي} بالنون مبنيًا للفاعل اعتبارًا بقوله: {وما أَرْسَلْنا} وكذلك قرأ ما في النحل وما في أول الأنبياء، ووافقه الأخَوان على قوله: {نوحي إليه} في الأنبياء على ما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى. والجملة صفةٌ ل: {رجالًا}. و: {مِّنْ أَهْلِ القرى} صفة ثانية، وكان تقديمُ هذه الصفةِ على ما قبلها أكثرَ استعمالًا؛ لأنها أقربُ إلى المفردِ وقد تقدَّم تحريرُه في المائدة. قوله: {وَلَدَارُ الآخرة} وما بعده قد تقدَّم في الأنعام. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]، وفي سورة النحل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وفي سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7]، وفي سورة الفرقان: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20]، للسائل أن يسأل عن اختصاص هاتين الآيتين الأخيرتين بسقوط: {من} منهما وثبوتها في الآيتين الأوليين.
والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية يوسف قد تقدمها قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، وقوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، وقوة السياق في هذه الآي يدل على معنى القسم ويعطيه، فناسب ذلك زيادة: {من} المقتضية الاستغراق، وكذلك قوله في سورة النحل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} [النحل: 41] يؤكد ذلك المعنى، فناسبه زيادة: {من} لاستغراق ما تقدم من الزمان.
أما قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7] فتقدم قبلها إنكار الكفار كون الرسل من البشر في قوله: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3]، واقتراحهم الآيات في قوله: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5]، فلما انطوى هذا الكلام على قضيتين: من اقتراحهم الآيات، وإنكارهم كون الرسل من البشر، وقد بين لهم حال المقترحين في قوله تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأنبياء: 6]، فلما تقدم هذا اتبع ببيان الطرف: {الآخر} وهو التعريف بأن من تقدم من الرسل إنما كانوا رجالًا من البشر، مختصين بتخصيصه سبحانه، ولم يكونوا ملائكة، فقيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7]، فقيل هنا: {قبلك} كما قيل في نظيرتها: {ما ءامنت قبلهم}، فلم تدخل هنا: {من} كما لم تدخل في النظير: {الآخر} لإحراز التناسب، والتام الجملة المنطوية على طرفي مقصدهم من الاقتراح وإنكار كون الرسل من البشر، وكذلك الوارد في سورة الفرقان في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20]، وإنما ورد جوابًا لقولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]، ولا داعي في هذا للقسم إذ هو جواب لقولهم، فلا داعي لورود: {من}، فورد هذا كله على أبدع نظام وأعلى تناسب، وإذا اعتبر الناظر استوضح أن كلًا من هذه الآي لا يمكن إتيانه في موضوع غيره والله أعلم.
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} [يوسف: 109]، قلت: تكرر هذا الضرب من الاعتبار بأحوال من تقدم من الأمم وما أعقب المكذبين تكذيبهم في عدة مواضع، منها ما ورد فيه بعد همزة التقرير وفاء التعقيب، ومنها ما ورد بواو النسق، فأما تقديم الهمزة قبلها فلما لها من الصدرية، فلا يتقدم حرف العطف عليها، ولما جرت في هذه الآي على ما ذكرنا من تخصيص بعض هذه المواضع بالفاء المقتضية مع التشريك الترتيب والتعقيب، وبعضها بالواو المقتضية مجرد التشريك والجمع، كان ذلك مظنة سؤال، فللسائل أن يسأل عن تخصيص كل واحد من هذه المواضع بما اختص به في عطفه على ما قبله؟ فمن الوارد بالفاء آية يوسف المذكورة آنفًا وفي سورة الحج: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]، وفي آخر سورة غافر: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ...} [غافر: 82]، وفي سورة القتال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10]، فهذه أربع آيات مما ورد بالفاء. ومن الوارد بالواو قوله في سورة الروم: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9]، وفي سورة الملائكة: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فاطر: 44]، وفي سورة المؤمن: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} [غافر: 21]، فهذه ثلاث آيات.
والجواب عن الضرب الأول: أما آية يوسف فقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [يوسف: 109] مربوط بما قبله ومبني على ما تقدم كحال في جواب مبني على ما قبله، ألا ترى أن قبل الآية آيات تخويف وترهيب، كقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]، ثم قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، ثم قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 107]، ثم قال تعالى: {قلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، ثم قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [يوسف: 109] فالكلام بجملته في قوة أن لو قيل: ما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا من البشر أمثالك فكذبوا فهلك مكذبوهم وأخذوا كل مأخذ، فإن شاء هؤلاء فليسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة: {الذين من قبلهم} ممن تقدمهم، فالكلام من حيث معناه في قوة الشرط والجزاء فورد بالفاء، وليس موضع الواو، ويشهد لهذا الغرض ويبينه قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [النحل: 36]، أي فإن شككتم فسيروا في الأرض، وعلى هذا المعنى كل ما ورد من هذا. ومن هذا القبيل آية سورة الحج، ألا ترى أن قبلها قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 42-44]، ثم قال: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [الحج: 45-46]، أي فهلا ساروا في: {الأرض} قاصدين الاعتبار فعقلوا بقلوبهم وانتفعوا بأسماعهم وأبصارهم، فعلى هذا المعنى لا مدخل لواو العطف هنا، وإنما الملائم الفاء لما تعطيه من السببيه والارتباط.
وأما الوارد في (آخر) سورة المؤمن فقد تقدم قبلها قوله تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} [غافر: 81]، ثم قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [غافر: 82] أي فهلا ساروا في الأرض: {فاعتبروا بما} في الأرض من الآيات، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20]، فالمعنى على هذا وليس المعنى على العطف المجرد من معنى التسبب، فالموضع للفاء ولا لواو النسق.
وأما الوارد في سورة القتال فإن قبل الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7-9]، ثم قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [محمد: 10]، فالملائم هنا الفاء لما في الكلام من معنى التسبب والتخصيص المحرزين هنا ما يلائم ويناسب مرتكبهم من التوبيخ، فالموضع للفاء المقصود بها ربط الكلام بما قبله.
وأما الضرب الثاني مما ورد بالواو فلعطف ذلك: {على} ما قبله تشريكًا لا سببية فيه ولا معنى جوابيه ولا مقصود تعقيب ولا ربط مقصزدها من المعاني بما قبله سوى التشريك خاصة، ففي سورة الروم ورد متقدمًا قبل الآية في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم: 8]، فعطف على هذه عطف تشريك لا سببية فيه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [الروم: 9]، فتشاركت الآيتان في الحض على الاعتبار ومقصودهما واحد، فعطفت إحداهما على الأخرى بما يقتضي ذلك وليس إلا الواو، وأما الفاء وثم فلا مدخل لواحدة منهما هنا، والله أعلم.
وأما سورة الملائكة فتقدم فيها قوله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} [فاطر: 43]، فأحيلوا على ما اطرد في من قبلهم من سنته تعالى فيهم، من أخذهم بتكذيبهم سنة الله التي خلت من قبل، ثم أعقب بإحالتهم على قرب منهم ممن شاهدوا آثاره وتعرفوا على قرب أخباره فقيل: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [فاطر: 44]، فقوله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ} وقوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا} مسلك واحد في الاعتبار، فصل لهم بحسب بعد ما أمروا باعتبار حاله (أو قربه)، فعطف أحد السببين على الآخر مع اتحاد النوع المعتبر به، ولا يعطف مثل هذا إلا بالواو خاصة، وما سوى الواو لا يلائم ولا يناس، والله أعلم.
وأما الآية الأولى من سورة المؤمن فملحوظ فيها من نيطت به في معناها من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13]، وليس بعد هذه الآية من معناها إلا قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [غافر: 21]، فمن آياتته تعالى التي رآها عباده ما أجراه من سنته فيمن خلا من الأمم، فوقعت الإحالة على ذلك بعطف الآية من قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} على ما به نيطت حسبما تقدم، ولا يناسب ذلك غير الواو. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}
تعجبوا أن يبعثَ اللَّهُ إلى الخْلق بشرًا رسولًا، فبيَّن أنه أجرى سُنَّتَه- فيمن تقدَّمَ من الأمم- ألا يكونَ الرسولُ إليهم بَشَرًا، فإما أن جحدوا جوازَ بعثةِ الرسولِ أصلًا، أو أنهم استنكروا أن يبعث بشرًّا رسولًا. ثم أَمَرهُم بالاستدلال والتفكر والاعتبار والنَّظَر فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الأَرْض....}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (110):

قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان المعنى معلومًا من هذا السياق تقديره: فدعا الرجال المرسلون إلى الله واجتهدوا في إنذار قومهم لخلاصهم من الشقاء، وتوعدهم عن الله بأنواع العقوبات إن لم يتبعوهم، وطال عليهم الأمر وتراخى النصر وهم يكذبونهم في تلك الإيعادات ويبكتونهم ويستهزئون بهم، واستمر ذلك من حالهم وحالهم، قال مشيرًا إلى ذلك: {حتى إذا استيئس الرسل} أي يئسوا من النصر يأسًا عظيمًا كأنهم أوجدوه أو طلبوه واستجلبوه من أنفسهم: {وظنوا أنهم قد كذبوا} أي فعلوا فعل اليأس العظيم اليأس الذي ظن أنه قد أخلف وعده من الإقبال على التحذير والتبشير والجواب- لمن استهزأ بهم وقال: ما يحبس ما وعدتمونا به- بإن ذلك أمره إلى الله، إن شاء أنجزه، وإن شاء أخره، ليس علينا من أمره شيء؛ ويجوز أن يراد أنهم لمن استبطؤوا النصر وضجروا مما يقاسون من أذى الأعداء، واستبطاء الأولياء: {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه} كما يقول الآئس: {متى نصر الله} مع علمهم بأن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء، عبر عن حالهم ذلك بما هنا- نقل الزمخشري في الكشاف والرازي في اللوامع معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، هذا على قراءة التخفيف، وأما على قراءة التشديد فالتقدير: وظنوا أنهم قد كذبهم أتباعهم حتى لقد أنكرت عائشة رضي الله عنها قراءة التخفيف، روى البخاري في التفسير وغيره عن عروة بن الزبير أنه سألها عن القراءة: أهي بالتشديد أم بالتخفيف؟ فقالت: إنها بالتشديد، قال قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن، قالت: أجل، لعمري لقد استيقنوا بذلك! فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا أي بالتخفيف- قالت: معاذ الله! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنوا أنهم أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك.
{جاءهم نصرنا} لهم بخذلان أعدائهم: {فنجي من نشاء} منهم ومن أعدائهم: {ولا يرد بأسنا} أي عذابنا لما له من العظمة: {عن القوم} أي وإن كانوا في غاية القوة: {المجرمين} الذين حتمنا دوامهم على القطيعة كما قلنا: {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفًا عنهم} وحققنا بمن ذكرنا مصارعهم من الأمم، وكل ذلك إعلام بأن سنته جرت بأنه يطيل الامتحان، ويمد زمان الابتلاء والاعتبار، حثًا للأتباع على الصبر وزجرًا للمكذبين عن التمادي في الاستهزاء.
ومادة كذب تدور على ما لا حقيقة له، وأكثر تصاريفها واضح في ذلك، ويستعمل في غير الإنسان، قالوا: كذب البرق والحلم والرجاء والطمع والظن، وكذبت العين: خانها حسها، وكذب الرأي: تبين الأمر بخلاف ما هو به، وكذبته نفسه: منته غير الحق، والكذوب: النفس، لذلك، وأكذبت الناقة وكذبت- إذا ضربها الفحل فتشول أي ترفع ذنبها ثم ترجع حائلًا، لأنها أخلفت ظن حملها، وكذا إذا ظن بها لبن وليس بها، ويقال لمن يصاح به وهو ساكن يرى أنه نائم: قد أكذب، أي عد ذلك الصياح عدمًا، والمكذوبة من النساء: الضعيفة، لأنه لما اجتمع فيها ضعف النساء وضعفها عدت عدمًا، والمكذوبة على القلب: المرأة الصالحة- كأنها لعزة الصلاح في النساء جعلت عدمًا، وكذب الوحشي- إذا جرى ثم وقف ينظر ما وراءه، كأنه لم يصدق بالذي أنفره، ومنه كذب عن كذا- إذا أحجم عنه بعد أن أراده، أو لأنه كذب ما ظنه عند الحملة من قتل الأقران، وكذبك الحج أي أمكنك وكذبك الصيد مثله، وهو يؤول إلى الحث لأن المعنى أن الحج لعظم مشقته وطول شقته تنفر النفس عنه، فيكاد أن لا يوجد، وكذا الصيد لشدة فراره وسرعة نفاره وعزة استقراره يكاد أن لا يتمكن منه فيكون صيده كالكذب لا حقيقة له، فقد تبين حينئذ وجه كون كذب بمعنى الإغراء ولاح أن قوله ثلاثة أسفار كذبن عليكم: الحج والعمرة والجهاد معناه أنها لشدة الصعوبة لا تكاد تمكن من أرادها منها، مع أنه- لقوة داعيته لكثرة ما يرى فيها من الترغيب بالأجر- يكون كالظافر بها، ويؤيده ما قال ابن الأثير في النهاية عن الأخفش: الحج مرفوع ومعناه نصب، لأنه يريد أن يأمره بالحج كما يقال: أمكنك الصيد، يريد: ارمه، وقال أبو علي الفارسي في الحجة في قول عنترة:
كذب العتيق وماء شن بارد ** إن كنت سائلتي غبوقًا فاذهبي

وإن شئت قلت: إن الكلمة لما كثر استعمالها في الإغراء بالشيء والبعث على طلبه وإيجاده صار كأنه قال بقوله لها: عليك العتيق، أي الزميه، ولا يريد نفيه ولكن إضرابها عما عداه، فيكون العتيق في المعنى مفعولًا به إن كان لفظه مرفوعًا، مثل: {سلام عليكم} ونحوه مما يراد به الدعاء واللفظ على الرفع، وحكى محمد بن السري رحمه الله عن بعض أهل اللغة في كذب العتيق أن مضر تنصب به وأن اليمن ترفع به، وقد تقدم وجه ذلك- انتهى.
وأقرب من ذلك جدًا وأسهل تناولًا وأخذًا أن الإنسان لا يزال منيع الجناب مصون الحجاب ما كان لازمًا للصدق فإذا كذب فقد أمكن من نفسه وهان أمره، فمعنى ثلاثة أسفار كذبن عليكم أمكنتكم من أنفسها، الحج كل سنة بزوال مانع الكفار عنه، والعمرة كل السنة بزوال المفسدين بالقتل وغيره في أشهر الحل، والجهاد كل السنة أيضًا لإباحته في الأشهر الحرم وغيرها، وتخريج مثل: كذبتك الظهائر، وغيره على هذا بين الظهور ولا وقفة فيه ولكون الكاذب يبادر إلى المعاذير ويحاول التخلص كان التعبير بهذا من باب الإغراء، أي انتهز الفرصة وبادر تعسر هذا الإمكان. اهـ.